مقالات
مما قرأتُ لك(لغة التى تكلم بها آدم)
جهاد نوار
كانت لى وقفة طويلة منذ زمن أمام أصل اللغات، و أنا اتأمل اللفظة العربية “كهف” فأجدها:
فى الإنجليزية (cave)
فى الفرنسية (cave)
فى الإيطالية (cava)
فى اللاتينية (cavus)
فأسأل، و أنا أراها كلها واحدا.. أى لغة أخذتها عن الأخرى
و أيها الأصل؟ وكان الجواب يحتاج للغوص فى علم اللغويات و البحث فى البحار القديمة التى خرجت منها كل الكلمات التى نتداولها، و كان هذا الأمر يحتاج إلى سنوات، بل ربما إلى عمر آخر.
دار الزمان دورته ثم وقع فى يدى كتابا عنوانه “اللغة العربية أصل اللغات”.. و الكتاب بالإنجليزية، و المؤلفة هى تحية عبد العزيز إسماعيل أستاذة متخصصة فى علم اللغويات، تدرس هذه المادة فى الجامعة، إذن هى ضالتى..
و عرفت أنها قضت عشر سنوات تنقّب، و تبحث فى الوثائق و المخطوطات، و المراجع، و القواميس؛ لتصل إلى هذا الحكم القاطع.. فازداد فضولى،و شوقى، فالتهمت الكتاب فى ليلتين.
و الكتاب فى نظرى ثروة أكاديمية وفتح جديد فى علم اللغويات يستحق أن يلقى عليه الضوء، و أن يقيّم، و أن يأخذ مكانه بين المراجع العلمية المهمة.
كما ألفت نظر القارئ أولا أن يمر بعينيه على الجداول الملحقة بالمقال، و يلاحظ الألفاظ المشتركة بين اللغة العربية كذلك الإنجليزية، و بين العربية و اللاتينية، و بين العربية الأنجلوساكسونية، وبين العربية، و الفرنسية، و العربية الأوروبية القديمة، وبين العربية واليونانية، و بين العربية و الإيطالية، و بين العربية والسنسكريتية، ليشهد هذا الشارع العربى المشترك الذى تتقاطع فيه كل شوارع اللغات المختلفة، هذا الكم الهائل المشترك من الكلمات رغم القارات، و المحيطات التي تفصل شعوبها بعضها عن بعض، ثم أعود إلى السؤال:
لماذا خرجت المؤلفة بالنتيجة القاطعة أن اللغة العربية كانت الأصل، و المنبع، إن جميع اللغات كانت قنوات، و روافد منها؛ تقول المؤلفة فى كتابها:
أن السبب الأول هو سعة اللغة العربية، و غناها، و ضيق اللغات الأخرى، و فقرها النسبى؛ فاللغة اللاتينية بها سبعمائة جذر لغوى فقط،و الساكسونية بها ألفا جذر! بينما العربية بها ستة عشر ألف جذر لغوى، يضاف إلى هذه السعة سعة أخرى فى التفعيل، و الاشتقاق، و التركيب.
. ففى الانجليزية مثلا لفظ Tallبمعنى طويل والتشابه بين الكلمتين فى النطق واضح،لكننا نجد أن اللفظة العربية تخرج منها مشتقات، و تراكيب بلا عدد مثل:
(طال يطول.. طائل.. طائلة.. طويل.. طويلة، ذو الطول ومستطيل.. إلخ، بينما اللفظ الإنجليزى Tall لا يخرج منه شيئا.
نفس الملاحظة فة لفظة أخرى مثل Good بالإنجليزية وجيد بالعربية، و كلاهما متشابه في النطق، لكننا نجد كلمة جيد يخرج منها
الجود، الجودة، الإجادة، يجيد، يجود جواد جياد… إلخ، و لا نجد لفظ Good يخرج منه شيئا!
ثم نجد فى العربية اللفظة الواحدة تعطى أكثر من معنى بمجرد تلوين الوزن.. فمثلا قاتل، قتيل، و فيض، فيضان رحيم رحمن، رضى، رضوان، عنف، عنفوان.. اختلافات فى المعنى أحيانا تصل إلى العكس كما فى قاتل، و قتيل، و هذا التلوين فى الإيقاع الوزنى غير معروف فى اللغات الأخرى..
و إذا احتاج الأمر لا يجد الإنجليزى بدا من استخدام كلمتين مثل Good & Very Good للتعبير عن الجيد، و الأجود.
و ميزة أخرى ينفرد بها الحرف العربى.. هى أن الحرف العربى بذاته له رمزية، و دلالة، و معنى.. فحرف الحاء مثلا نراه يرمز للحدة، و السخونة.. مثل حمى، حرارة، حر، حريق، حقد، حميم، حنظل، حريف، حرام، حرير، حكة، حاد،حب، و حق..
بينما نجد حرفا آخر مثل الخاء يرمز إلى كل ما هو كريه و سيئ، و منفر، ويدخل فى كلمات مثل: خوف، خزى، و خجل خيانة، خلاعة، خنوثة، خذلان، و خنزير، و خنفس، و خرقة خلط، و خبط، خرف، خسة، و خسيس، وخم، خلع، و خواء..
ونرى الطفل إذا لمس النار قال.. أخ، ونرى الكبير إذا اكتشف أنه نسي أمرا مهما يقول: “أخ”؛
فالنسيان أمر سيئ، و هذه الرمزية الخاصة بالحرف، و التى تجعله بمفرده ذا معنى هى خاصية ينفرد بها الحرف العربى.. ولذا نجد سور القرآن أحيانا تبدأ بحرف واحد مثل: ص، ق، ن، أو، ألم.. و كأنما ذلك الحرف بذاته يعنى شيئا.
نستطيع أن نؤلّف بالعربية جملا قصيرة جدا مثل “لن أذهب” ومثل هذه الجملة القصيرة يحتاج الإنجليزي إلى جملة طويلة ليترجمها فيقول I shall not go ليعنى بذلك نفس الشئ؛ لأنه لا يجد عنده ما يقابل هذه الرمزية فى الحروف التى تسهل عليه الوصول إلى مراده بأقل كلمات.
وإذا ذهبنا نتتبع تاريخ اللغة العربية ونحوها وصرفها وقواعدها وكلماتها وتراكيبها فسوف نكتشف أن نحوها وصرفها وقواعدها وأساليب التراكيب والاشتقاق فيها ثابتة لم تتغير على مدى ما نعلم منذ آلاف السنين، وكل ما حدث أن نهرها كان يتسع من حيث المحصول والكلمات والمفردات كلما اتسعت المناسبات، ولكنها ظلت حافظة لكيانها وهيكلها وقوانينها ولم تجرِ عليها عوامل الفناء والانحلال أو التشويه والتحريف.
وهو ما لم يحدث في اللغات الأخرى التي دخلها التحريف والإضافة والحذف والإدماج والاختصار، وتغيرت أجروميتها مرة بعد مرة.وفي اللغة الألمانية القديمة نجد لغة فصحى خاصة بالشمال غير اللغة الفصحى الخاصة بالجنوب، ونجد أجرومية مختلفة في اللغتين، ونجد التطور يؤدي إلى التداخل والإدماج والاختصار والتحريف والتغيير في القواعد، ونفس الشيء في اللاتينية وأنواعها في اليونانية وفي الأنجلوساكسونية، ولهذا اختار الله اللغة العربية وعاء للقرآن؛ لأنه وعاء محفوظ غير ذي عوج، وامتدح قرآنه بأنه
{قرآنا عربيا غير ذى عوج}.
وحدّث ولا حرج عن غنى اللغة العربية بمترادفاتها حيث تجد للأسد العديد من الأسماء؛ فهو الليث والغضنفر والسبع والرئبال والهزبر والضرغام والضيغم والورد والقسورة… إلخ.
ونجد كل اسم يعكس صفة مختلفة في الأسد، ونجد لكل اسم ظلالا ورنينا وإيقاع، و من الطبيعي أن يأخذ الفقير من الغني وليس العكس، ومن الطبيعي أن تأخذ اللاتينية والساكسونية والأوروبية واليونانية من العربية، وأن تكون العربية هي الأصل الأول لجميع اللغات، وأن تكون هي التي أوحيت بقواعدها وتفعيلاتها وكلماتها إلى آدم كما قال القرآن: {وعلم آدم الأسماء كلها}.
ولكن المؤلفة لا تكتفي بالسند الديني، وإنما تقوم بتشريح الكلمات اللاتينية والأوروبية واليونانية والهيروغليفية، وتكشف عن تراكيبها وتردّها إلى أصولها العربية شارحة ما جدّ على تلك الكلمات من حذف وإدماج واختصار تفعل هذا في صبر ودأب وأناة ومثابرة عجيبة.
نحن أمام دراسة أكاديمية وفتح جديد في علم اللغويات تستحق صاحبته الدكتوراه الشرفية من الجامعة والتحية من الأزهر والاهتمام من القارئ الأجنبي والعربي، والالتفات من النقاد والمناقشة الجادة من الأكاديميين؛ حتى لا يقال عن بلادنا إنها لا تقوم ولا تقعد إلا لمباريات الكرة.
من كتاب:عالم الأسرار
د. #مصطفى_محمود