تنهيدة الخذلان تسقطك من القلب إلى ذاكرة النسيان ومنها إلى العدم ولن يعاد تدويرك مرة أخرى لأنك مادة غير قابلة للتدوير… إلى؟ من خذلونا
لا تشرق الشمس في وقت سطوع القمر، ولا تحتج النجوم لتأخذ مكان الكواكب؛ لأن مزاجها اليوم متقلب، ولا تطوى الأرض طبقاتها السبع العظام حينما يكدرها البناؤون ليل نهار بآلات الحفر..
الكون في انسجام منذ أن خلق الله العالم.. ليس كونًا مزاجيًّا متقلبًا، وإلا هلك الإنسان وبقية الكائنات.
ولكنه هو بالنسبة لها هو الكون، ولكنه الوجه الآخر الذي اختلقته هي.. متقلبًا.. مزاجيًّا حادًّا..
نجم مضيء ينير طريقها نحو السعادة إذا تحدث معها وأظهر بعض الاهتمام… شمس حارقة إذا أهملها..
قمر ينير الدنيا خلف نافذتها الوردية وهي تراقب الزهرة التي أهداها إياها وهو يناولها كشكول المحاضرات لمادة التشريح، ويوصيها بالمذاكرة والانتهاء سريعًا من نسخ المحاضرات…
تتجول بعينيها الخضراء في أطراف الوردة الحمراء، وتحدثها هامسة: هل يحبني مثلما أحبه؟!…
لكنه غني وأنا فقيرة.. لا أملك سوى بشرة بيضاء وشعر أصفر وعينين خضراوين.. ودولاب من الملابس يئنُّ من الفراغ والوحدة، خاليًا من دفء المعاطف الشتوية..
دولاب خشن لا يعرف نعومة الحرير.. وأوشحة مطرزة بالماس والياقوت مثل العديد من زميلاتنا في كلية الطب بجامعة القاهرة…
قدماي النحيلتان ترتجفان من البرد من تحت التنورة القصيرة التي أرتديها كل يوم وأنا أسير ناحيةَ محطة الأتوبيس، وهو يدخل الجامعة بعربته الحديثة مع زملائه، وقميصي الذي يواري نهدين غاضبين يغار أكثر مني حين أراه يتسامر مع هذه وتلك من طالبات كليتنا العريقة..
حتى عندما رآني أصفع زميلًا لنا حاول التقرب مني ببذاءة.. نظر إلي شزرًا ولم يهتم… وعندما أعدت رواية المشهد عليه لأُشهده عليه دافع عن ابن عشيرته الغنية.. دافع عنه واتهمني بأني بالغت في ردة الفعل!…
ومرت الأيام وحان وقت الحصاد.. وتخرجنا من كلية الطب بجامعة القاهرة، وتخصصنا في النساء والتوليد بمستشفى القصر العيني… سواء بسواء..
ولد على أيدينا عشرات الأطفال وأنا أعاونه وأراقبه بعيناي الخضراوين كما كنت أراقب أوراقَ الوردة الحمراء حتى ذبُلت عيناي، وذبلت أوراق الوردة الحمراء حينما شاهدتُ احتفال الزملاء به وهو يخنق إصبعه بدبلة خطوبته من زميلتنا في المستشفى…
أحسست بأن تلك الدبلة المستديرة ما هي إلا عصبة من أغصان النخيل تحيط برقبتي لتخنقها.. ابتسامته الواسعة وضحكته العالية ما هو إلا تكبير لصلاة جنازتي… مات قلبي وشُيعت جنازته ذلك اليوم.
ومنذ ذلك الوقت غادرت القاهرة إلى لندن.. غبت طويلًا، ولكني عدت محملة بشهادة الدكتوراة، وحينها وجدته وحيدا منفصلًا عن زوجته يسير بين حديقة المستشفى يبحث لي عن وردة يهديها، ولكن هيهات فقد استبدلت رائحة الورود برائحة الإسترليني!
بعد أن حققت نجاحًا عرفت من خلاله ألا أراهن على أشياء يدركها الذبول