ثقافة وفن
أخر الأخبار

“عين بصيرة”.. رحلة داخل الوهم المقنع بثوب الحقيقة

 

بقلم: يوسف إبراهيم

 

في الليلة الثانية من فعاليات المهرجان الإقليمي الختامي لفرق الأقاليم – إقليم شرق الدلتا الثقافي، قدمت فرقة شريحة ديرب نجم المسرحية عرضها المميز “عين بصيرة”، تأليف أحمد عبد الرازق وإخراج السيد عوني، وهو عرض ينتمي إلى المسرح الرمزي الفلسفي، ويتخذ من الخيال وسيلة لغوص عميق في صراع الإنسان بين الحقيقة والوهم، بين النور والظلام، في زمن باتت فيه البصائر مغطاة بغشاوة الكلام المنمق والوعود المزيفة.

فليس كل من نظر… قد رأى، وليس كل من رأى… قد أبصر.

فالعين تخدع، تلتقط القشور، أما البصيرة… فهي الغوص في الأعماق، حيث لا يصل الضوء، بل تصل الحقيقة.

كم من قطار مرّ بنا، وظننا أنه قدرٌ لا يُرد، وكم من مقبرة دفنّا فيها أيامنا، حتى ظننا أننا لن نُبعث من جديد.

لكننا ننسى… أن في داخل كل إنسان بابًا، لا يُفتح بالمفاتيح، بل بالأسئلة.

بابًا يؤدي إلى حقلٍ من النور، حيث تتعرى الأكاذيب، وتتهشم الأقنعة، ويعلو صوت الحق… لا على المنابر، بل في القلب.

ربما نكون في ظلام، لكن من قال إن النور يُرى بالعين؟

إنه يُلمس بالبصيرة، حين يتوقف القلب عن الخوف، وتبدأ الروح في الفهم.

في القلبِ صوتان… احدٌ يهمس بالنور، وآخر يصرخ بالهوى.

الشيطان لا يأتي بقرون حمراء، بل يأتي في هيئة فكرة، في صورة رغبة، في لحظة ضعف… يمشي في العقول كما يمشي الظل،صامتًا… لكنه ثقيل.

لكن الخير أيضًا لا يصمت، إنه يقاوم بصمت الحكماء، ويحمل في داخله شعلة لا تنطفئ، حتى لو التفّت حولها العتمة.

هذا الصراع…قديم كأول خطيئة،وعميق كأول دمعة توبة.

كل قلبٍ مسرح،وكل إنسان بطل في حكاية داخله،فمن اختار البصيرة نجا،ومن استسلم للبريق الزائف…ضاع منه الطريق.

 

بائع الكلام.. البداية عند البوابة

 

يفتتح العرض بشخصية غريبة، تدخل إلى الركح مُعلنة أنها تبيع سلعة جديدة: الكلام. وبما يحمله الكلام من سحر ووعود، يدّعي هذا البائع قدرته على تغيير الأقدار وتبديل المصائر، ليفتح بذلك بابًا يفضي بالجمهور إلى عالم من الحكايات والقصص التي تشكل هيكل العرض. لكن ما إن نسترسل معه حتى نكتشف أن هذا البائع ما هو إلا رمز للشيطان المعاصر، الذي لا يأتي كما عهدناه بقرنين وذيل، بل في ثياب بيضاء، ناصعة، تُشبه ثياب باقي الشخصيات، ليعكس بذلك خطورة التمويه والإيهام حين يتوشح الباطل برداء الحق.

 

بصيرة.. العرّافة التي لا ترى

 

إلى جوار بائع الكلام، تظهر شخصية “بصيرة”، وهي عرّافة تمسك صولجانًا في يدها، تدّعي أنها ترى ما لا يراه الآخرون. لكننا ندرك سريعًا أن “بصيرتها” ليست سوى انعكاس للوهم، وأنها شريكة في مشروع التضليل الذي يقوده الشيطان الأبيض، فتتحول من كونها “هادية” إلى واحدة من رموز الضلال، في إسقاط واضح على بعض أشكال الزيف الديني والروحي الذي يتخذ من الغيبيات وسيلة للهيمنة على العقول الضعيفة.

 

شخصيات بين الحيرة والمقاومة

 

يتعدد الخط الدرامي من خلال عدد من الشخصيات المحورية، منها:

 

عابد المختار: شخصية تبحث عن اليقين، عن الحقيقة، لكنه دائم التردد، ما يجعله فريسة سهلة للخطاب الكاذب.

راغب: نموذج للرغبة الجامحة التي تعمي الإنسان عن جوهر الأمور، فينجرف نحو الوهم.

فارس: أخو راغب، وربما يحمل دلالة رمزية على النفس اللوامة أو المقاومة التي تحاول النجاة.

 

هذا التعدد في النماذج البشرية منح العرض طابعًا تأمليًا، حيث لا يُقدَّم حلٌّ جاهز، بل تُطرح الأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسان المعاصر في عالم امتلأ بالصخب والادعاء.

 

الديكور.. القطار الذي لا يصل

 

اختار المخرج السيد عوني أن يُشكِّل فضاء العرض باستخدام بانوهات خشبية تُجسد قطارًا بكابينة قيادة، تُحرَّك هذه البانوهات لتُغيِّر شكل المشهد وتُشير إلى تنقل الحكايات وتغير الأماكن.

 

لكن القطار في هذا السياق لا يمثل وسيلة انتقال حقيقية، بل رمز لـ”مسار الحياة”، أو ربما لـ”رحلة الخداع”، حيث تظل الشخصيات تتحرك ظاهريًا بينما تبقى في نفس البقعة فكريًا ووجوديًا. ومع ثبات الميزانسين في معظم العرض، يتولد شعور مقصود بالرتابة التي تعكس ركود العقل الجمعي، وعدم قدرة الإنسان على كسر دوائر التكرار والضلال.

 

الموسيقى والاستعراضات.. لحظات تنفس درامي

 

رغم الرتابة التي سيطرت على بعض المشاهد، فإن العرض استعاد حيويته في لحظات موسيقية واستعراضية قدَّمها مجموعة من الشباب ببراعة ملحوظة. الأغاني والأشعار كانت معبرة، مدروسة، وتخدم سياق الفكرة ببُعد جمالي وإنساني، بينما جاءت الحركات الاستعراضية بمثابة فسحات نفسية تكسر ثقل الرمزية وتُضفي لمسة من التوازن البصري.

 

الملابس البيضاء.. الوهم في رداء النقاء

 

من أجمل مفارقات العرض أن جميع الشخصيات، بمن فيهم رموز الضلال، يرتدون الأبيض، في إشارة فلسفية إلى أن الخطر الحقيقي ليس في من نراه عدوًا واضحًا، بل في من يُشبهنا، يتكلم بلغتنا، ويمشي بيننا. الأبيض هنا يتحول من رمز للبراءة إلى قناع للوهم، ومن ثمَّ يُصبح العرض كله صرخة ضد التصديق الساذج لكل ما يلمع أو يبرق.

 

إخراج يتكئ على الرمز ويحتاج للمزيد من التنوع الإيقاعي

 

الإخراج حافظ على خط رمزي متماسك، واستطاع أن يخلق جوًا تعبيريًا واضح الدلالة، خصوصًا في توظيف الإضاءة والموسيقى. لكن يُؤخذ عليه ثبات الإيقاع البصري والحركي في مشاهد عدة، وهو ما قد يُشعر بعض المتفرجين بالتكرار أو الملل، خصوصًا في ظل سيادة الحوار على الفعل الدرامي.

 

خاتمة: بين البصيرة والوهم

 

“عين بصيرة” هو عرض مسرحي يُحسب له جرأته الفكرية وصدقه الإنساني، فهو لا يسعى إلى الإبهار السطحي، بل يُخاطب العقل والوجدان، ويُذكّرنا بأن البصيرة لا تُمنح بالملابس أو الأقوال، بل تُولد من صدق القلب ونقاء النية.

 

التحية لفرقة شريحة ديرب نجم المسرحية على هذا العمل الطموح، وللمخرج السيد عوني الذي قاد هذا المركب الرمزي باحتراف، وللكاتب أحمد عبد الرازق الذي نسج نصًا فيه من العمق ما يستحق الوقوف عنده طويلاً. عرض يستحق أن يُرى مرة أخرى، لا ليتلقى الجمهور إجابة، بل ليتساءل من جديد: هل نملك “عينًا بصيرة”… أم نعيش في وهمها؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى