
بقلم : يوسف ابراهيم
في الليلة السادسة من ليالي المهرجان الإقليمي الختامي لفرق الأقاليم، الذي ينظمه إقليم شرق الدلتا الثقافي، قدّمت فرقة “شريحة قدامى الفلاحين” عرضها المسرحي “كوبري الناموس” على خشبة قصر ثقافة الزقازيق، عن نصّ للكاتب الكبير سعد الدين وهبة، برؤية إخراجية لعبدالرحمن سالم.
المسرحية تضعنا في مواجهة مباشرة مع فعل الانتظار، كحالة إنسانية ووجودية، وتحملنا فوق “كوبري” ليس فقط بوصفه مَعبرًا ماديًا، بل كرمز مشحون بالمعاني، بين واقع مأزوم وحلم دائم التأجيل. من خلال شخصيات متباينة، وسينوغرافيا دالة، وإضاءة معبرة، استطاع العرض أن يخلق حالة من التأمل والتساؤل، تُعيد للمسرح الإقليمي بريقه، وتُعيد للمتلقي وعيه المعلّق على جسر الزمن.
مسرحية “كوبري الناموس” تمثّل الانتظار بكل صوره وأشكاله…
انتظار المخلّص، وانتظار العدالة، وانتظار الحلم المؤجل، وحتى انتظار الفرج من همٍّ شخصي.
كل ذلك يحدث فوق “كوبرى” — ليس مجرد معبر مادي، بل فاصل رمزي بين مدينتين، بين ضفتين، بين واقعٍ مريض وأملٍ معلق.
على هذا الكوبري تشاهد نماذج مختلفة من البشر…
تستمع لحكاياتهم، تتعرّف على همومهم، على أفكارهم المتناقضة وأحلامهم المبعثرة.
كل شخصية هي مرآة لجزء من النفس المصرية، وكل حوار يحمل ما هو أبعد من معناه المباشر.
تستمع لحكاياتهم، تتعرّف على همومهم، على أفكارهم المتناقضة وأحلامهم المبعثرة.
سينوغرافيا معبّرة… وديكور يروي الحكاية قبل أن تبدأ
استطاع المخرج أن يوظف عناصر السينوغرافيا بذكاء بصري وفني. فقد بدا الديكور الخشبي المائل والمكسو بالأقمشة الباهتة وكأنه تعبير حسي عن واقع متداعٍ، قرية بأكملها على حافة السقوط، وكأن الأرض نفسها لم تعد متماسكة.
في منتصف الخشبة، كان الكوبري – الرمز المحوري – يتوسط العرض لا كمجرد قطعة خشب، بل كجسر زمني وفلسفي بين ما مضى وما يُنتظر. هذا الجسر، الذي بدا ساكنًا في هيئته، كان متحركًا في دلالاته: هل هو عبور نحو الأمل؟ أم حاجزٌ يحول دون الحقيقة؟
الإضاءة… مزيج من التوتر والانكسار
اعتمد العرض على إضاءة مدروسة بعناية، عزّزت من البُعد النفسي للمشاهد. الألوان تنقلت بين البرودة والحمرة، بحسب توتر الموقف الدرامي، فبدت الإضاءة كأنها مرآة لقلق الشخصيات وتذبذب قراها الداخلية.
الإضاءة البنفسجية والزرقاء خلقت شعورًا بالضبابية، بينما الإضاءة الحمراء في أحد المشاهد الحاسمة أوحت بالصدام والانفجار، وكأن القلوب بلغت ذروتها من القهر.
الأداء التمثيلي… محاولات صادقة تتفاوت بين الإقناع والرتابة
تميّز بعض الممثلين بأداء جسدي واضح وقدرة على التعبير بالعين والإيماءة، إلا أن بعض الأداءات بدت متأثرة بالنمط التلفزيوني من حيث البطء في الإيقاع أو الخطابية الزائدة، مما قلّل أحيانًا من حرارة المشهد المسرحي.
ومع ذلك، نجح المخرج في ضبط إيقاع المَشاهد الجماعية، لا سيما تلك التي تطلّبت حركية رمزية، مثل المشهد الافتتاحي الذي جمع التكوينات الجسدية في صورة استعراضية تعكس حالة الانتظار العام، فبدت الخشبة كلوحة حية تموج بالحلم والإحباط.
أزياء تنبض بالواقعية… وموسيقى تهمس دون أن تصرخ
اعتمدت الأزياء على البساطة والواقعية، بما يعكس بدقة البيئة الريفية المنسية. الألوان الترابية، الجلاليب، وملابس النساء كلها جاءت متناسقة مع المكان والزمان.
الموسيقى والأشعار أُدمجت بأسلوب سينمائي معبّر، يعكس الحالة النفسية والمزاجية للمشاهد، ورافقها استعراضات جذابة ومنسقة أضافت إيقاعًا بصريًا ممتعًا للعرض.
فقد جاءت الموسيقي كخلفية وجدانية، تُرافق الحالة دون أن تفرض نفسها، في محاولة ناجحة لخلق توازن سمعي لا يُشتت المتلقي.
عبدالرحمن سالم… مخرج يبحث عن المعنى في قلب النص
يحسب للمخرج عبدالرحمن سالم سعيه نحو تأويل بصري للنص، ومحاولته الإبقاء على روح سعد الدين وهبة مع إضفاء مسحة رمزية معاصرة. استطاع أن يحوّل “كوبري الناموس” من مجرد سرد درامي إلى تجربة فكرية تُحفّز التساؤل: من المسؤول عن هذا الانتظار؟ وما الفرق بين الحلم والخديعة؟
سالم، رغم بعض التعثّر في إدارة الإيقاع داخل بعض المشاهد الحوارية، نجح في نقلنا من الخشبة إلى وجدان القرية، من الكوبري إلى قلوب الشخصيات، دون أن يفقدنا الإحساس بالزمن والمكان.
ختامًا: عرضٌ يطرح الأسئلة أكثر مما يقدّم إجابات
“كوبري الناموس” على خشبة الزقازيق لم يكن مجرد عرض مسرحي، بل كان مرآة مشروخة عكست قلق الإنسان في الأقاليم، وهواجسه، وانتظاراته المؤجلة.
وإن كانت بعض الجوانب التقنية تحتاج إلى مزيد من الصقل، فإن العرض، بروحه الطازجة، وطموحه الصادق، وأداء فريقه، نجح في أن يحجز لنفسه موقعًا لافتًا ضمن ليالي المهرجان، مؤكدًا أن المسرح الإقليمي لا يزال ينبض بالحياة… رغم الناموس!