مقالات
باحثة البادية … رؤى من أعماق التجربة الذاتي
قراءة فلسفية في تجربة ملك حفني ناصف من خلال مقالة د. عزيزة صبحي، واستلهام معاني النسوية المعتدلة في زمن مضطرب

د . عزيزة صبحى
استاذ الفلسفة _ جامعة اسكندرية
______________________
باحثة البادية هي ملك حفني ناصف (1886 – 1918م) إحدى رائدات النسوية في مصر، دافعت عن المرأة وعن حقوقها. كانت أول فتاة حصلت على الشهادة الابتدائية 1900م، ثم دبلوم المعلمات 1903م، قَدمت العديد من المطالبات الخاصة بإصلاح أحوال المرأة المصرية ورفع شأنها.
كان لملك حفني ناصف
أو باحثة البادية كما لُقبت بعد انتقالها للإقامة بالفيوم عقب زواجها، كان لها العديد من الإسهامات التي تتصل بأوضاع المرأة المصرية وتعليمها وزواجها وخروجها للعمل، وقد عملت على نشرها من خلال مقالاتها المعنونة “بالنسائيات”، ومن خلال مشاركتها الفاعلة في إلقاء المحاضرات العامة، وفي تأسيس عدد من الجمعيات التي تهتم بقضايا المرأة.
لقد أثارت آراء باحثة البادية
–رغم مسانداتها للمرأة- حفيظة النسويات اللائي نظرن إلى آرائها بوصفها آراءً رجعية، كما أثارت حفيظة المجتمع فيما يتصل بآرائها عن رفض تعدد الزوجات،والحقيقة أن ملك حفني ناصف ، فضلاً عن كونها إحدى النابهات المستنيرات. فهي ابنة عصرها وبيئتها، والدها المصري حفني ناصف (أحد مؤسسي الجامعة المصرية)، كان له دور محوري في تكوين شخصيتها حيث شجعها منذ الصغر على التعليم والقراءة، وهو ما ذكرته ملك لاحقًا حيث كان يناقشها كأنها رجل، ويثق في رأيها ويهديها الكتب كما يهديها لأخيها، فضلاً عما ورثته عنه من قوة البيان ومحبة الشعر والكتابة.
وقد كان هذا الأب هو الرجل الأول في حياتها، وهو مثال للرجل المثقف الذي لا يخشى تفوق المرأة ، ولا يبخسها قدرها بل ينظر إليها بوصفها شريكًا في الطريق وفي الحياة.
مما ساعدها على التقدم بخطوات واثقة داخل مجتمع لا يزال في يتجه نحو خطواته الأولى فى مسألة تعليم المرأة. هي ابنة عصرها أيضًا لأنها تنتمي إلى جيل من الرواد المستنيرين الذين جعلوا من التعليم وسيلة للتقدم وللتحرر معًا مثل؛ محمد عبده، وسعد زغلول وغيرهما.
أما الرجل الثاني في حياة ملك حفني ناصف فهو عبد الستار الباسل أحد أعيان محافظة الفيوم ، وقد بدأ خطاب ملك حفني بعد زواجهما يتحول من خطاب فكري إلى خطاب إصلاحي اجتماعي، ظهر ذلك جليًا في آرائها الجريئة –آنذاك- عن الزواج.
حيث دعت إلى
ضرورة إعادة النظر في الأعراف الاجتماعية التي تنظم العلاقة بين الرجل والمرأة، وانتقدت كذلك زواج القاصرات، وقد أرادت زواجًا وشراكة عادلة قائمة على الحب والتفاهم لا على التقاليد والسلطة الذكورية.
ومن الطبيعي أن
تأتى هذه الآراء من عقلية تنويرية حرة كعقلية ملك، أما ما أثار جدلًا كبيرًا هو رفضها لتعدد الزوجات، إذ كيف يمكن لمن تمثل تيارًا محافظًا متعصبًا لدينها ولقوميتها أن تتبنى هذا الرأي الذى قد يبدو مخالفًا للشريعة الإسلامية؟ وهنا يتضح أن موقفها هذا قد جاء من عمق تجربتها الذاتية الموجعة، حيث لم يصارحها زوجها بزواجه من امرأة أخرى مما كان له أثر عميق في حياتها النفسية وربما كان هو السبب في رفضها للتعدد، ورغم أن ملك حفني ناصف لم تذكر زوجها ولم تصرح بتعدد زواجه بشكل مباشر، لكنها كانت تعبر بكلماتها عن معاناتها، وفي هذا تقول: “إذا كانت للمرأة ضرة، فبيتها قبر، وحياتها جحيم، وسعادتها مستحيلة، وهل بعد الضرة إلا الموت؟!”
ورغم المعاناة التي عايشتها ملك لسنوات، فإنها لم تطلب الطلاق خوفًا مما يمكن أن يلقى على كاهل المتعلمات من وصمة بأنهن لا يحافظن على زواجهن. ولقد أطلقت ملك على هذه السنوات من حياتها سنوات النار المقدسة وكانت تعني –كما ذكرت في النسائيات- أن النار تحمل الروح على ألسنتها لكي تتطهر وتعلو في سماء المعاني.
اقرأ أيضا
قائمة رائدات الحركة النسائية في مصر
أما عن الأسباب التي
جعلت بعض النسويات يصفونها بالرجعية ، فهي تقديرها للبيئة العربية، و احترامها للزي العربي المحتشم مقارنة بالأزياء الغربية، كذلك موقفها من المطالبة بأن يكون للإناث مقررات تعليمية تتناسب مع أدوارهن في الحياة، أيضًا قولها باختصاص المرأة بالبيت، وهذا بطبيعة الحال يتناقض مع الحركات النسوية في العالم الغربي.
وهنا أيضًا تظهر ملك مخلصة لعصرها ولأعرافها وتقاليدها الشرقية، وحقيقة الأمر، أن ملك حفني كانت على قدر من الوعي، يؤكد أن التغيير في المجتمع لابد وأن يكون تغييرًا تدريجيًا، يُهيأ له المجتمع، ويتوافق عليه.
وفي النهاية،
كانت رحلة حياة ملك حفني ناصف قصيرة زمانيًا حيث توفيت في العام الثاني والثلاثين من عمرها، لكنها، رغم ذلك، كانت رحلة ملهمة مفعمة بالإنجازات المسؤولة وبالمطالبات النسوية المتزنة.
فقط أريد أن أقول للائي يبحثن عن نشأة النسوية والجندرية لدى سيمون دى بوفوار_ رغم قدرها- انطلاقًا من مقولتها الشهيرة فى كتابها الجنس الآخر 1949 ” إننا نأتى إلى هذا العالم إناثًا وذكورًا، لكن المجتمع هو من يجعل منا نساءً ورجالًا. هو نفسه ما أشارت إليه ملك حفني ناصف وذلك قبل أن يظهر اصطلاح الجندر والنسوية، وذلك حينما أكدت أن التقسيم الظاهري للأدوار التي تقوم بها المرأة ليس من صنع القدر أو الطبيعة، لكنه نتاج النظام الاجتماعي الأبوي.
لكنها قدمته دون شطط أو تجاوز للمبادئ الدينية والأخلاقية ، فالحرية ليست انفلاتًا أو تقليدًا أعمى للغرب، لكن الحرية…حق ومسؤولية.