
بقلم التشكيلية الأردنية تهاني المرافي
المقدمة
الفن، منذ أقدم عصوره، لم يكن مجرّد وسيلة للتزيين أو نقل الواقع، بل كان انعكاسًا للذات الإنسانية، وسعيًا لفهم الوجود. في الفن التشكيلي تحديدًا، تتجلى الذات بوصفها مركزًا خلاقًا يتجاوز الواقع المُعاش ليبتكر عوالم بديلة تعبّر عن أعماق النفس. هذه القراءة تسعى إلى تحليل العلاقة بين “الذات” و”الفن التشكيلي” من منظور فلسفي وجمالي، حيث يُنظر إلى الذات ليس كعنصر ثابت، بل ككائن متحوّل متعدد الأبعاد، يجد في التشكيل سبيلًا للتحرر والتعبير وإعادة بناء المعنى.
أولًا: تأملات في مفهوم الذات الفنية
1. الذات ككيان ديناميكي لا كجوهر ثابت
يتجاوز الخطاب الفني المعاصر التصورات التقليدية للذات بوصفها جوهرًا عقلانيًا أو نفسيًا مغلقًا. فالفنان، في لحظة الإبداع، لا يستدعي فقط ما يراه، بل أيضًا ما يشعر به ويؤمن به ويتخيله. الذات هنا كيان متحرّك، مرن، قادر على التحول والتجدّد، يتفاعل مع العالم ولا ينعزل عنه.
2. الذات كمنشئة للدهشة
من خلال الممارسة التشكيلية، يستيقظ إحساس الفنان بالدهشة. وهذه الدهشة – التي وصفها الفلاسفة مثل أفلاطون وغيره– ليست إلا لحظة انتباه للوجود، لحظة خروج عن المألوف وإعادة النظر في الأشياء كما لو كانت تُرى لأول مرة. وهنا يكمن سرّ الفن: في استعادة الإدهاش من خلال رؤية الذات للعالم بعين جديدة.
ثانيًا: التشكيل بوصفه تفكيكًا للأنظمة الرتيبة
1. مقاومة النمطية
الفن التشكيلي الحقيقي لا يكرر الواقع، بل يعيد صياغته. عبر الألوان، والخطوط، والأشكال، يسعى الفنان إلى كسر الرتابة التي تفرضها الحياة اليومية، ويحرّر نظرته من القوالب الاجتماعية أو النفسية المفروضة عليه، التشكيل إذًا هو تمرد معرفي وجمالي.
2. بناء عوالم بديلة
حين يرسم الفنان عالمًا لا يشبه الواقع، فإنه لا يهرب منه، بل يعيد تشكيله وفق رؤيته الخاصة. هذه العوالم البديلة ليست خيالية تمامًا، بل هي امتدادات ممكنة للذات، محاولات لتجسيد ما لا يُقال بالكلمات. وهنا تظهر قدرة الذات على تجاوز الحتمية، واختراع واقع فني لا يخضع للمنطق الصارم.
ثالثًا: من المنطق إلى خلق التخيلية : الذات كمنظومة فوق منطقية
1. كسر الثنائية ( المألوف/اللامألوف)
الذات الفنية لا تكتفي بتكرار المفاهيم الجاهزة. بل تسعى إلى زعزعتها. التشكيل لا يعترف بالحدود القاطعة بين المألوف واللامألوف، أو بين الواقعي والرمزي. في لحظة الإبداع، تصبح اللوحة فضاءً تنحل فيه هذه الثنائيات، ويُفتح المجال لتوليد معانٍ متعددة.
2. الخروج من “الشيء بما هو هو”
بخلاف النظرة المنطقية التي ترى الأشياء في هويتها الثابتة، يُقدّم الفن التشكيلي مقاربة وجودية وشعورية: الأشياء ليست ما هي عليه فقط، بل ما يمكن أن تكونه حين تُرى من خلال ذات مشبعة بالتجربة والحدس والرمز. هذه النزعة التخيلية التي تخلق المضمون هي ما يميز العمل التشكيلي الصادق.
رابعًا: الذات كحقل سيادة وحرية
1. التحرر من الأنظمة والرتابة
الذات التشكيلية تسعى إلى التحرر من الأنظمة التي تكبّلها: سواء كانت اجتماعية، معرفية أو حتى نفسية. وكل عمل فني حقيقي هو الذي يحتل السيادة على المشهد البصري، والتمرد على الواقع الذي تفرضه المجتمعات من عادات وتقاليد وأفكار وغيرها، أي بمعنى أدق أن على الذات تشكيل عوالمها الخاصة والتحرر من الانخضاع لعوالم مقننة ومنظمة .
2. إنتاج المعنى لا استهلاكه
الفنان لا يستهلك المعاني الجاهزة، بل ينتجها. لا يقتات من الرموز المستهلكة، بل يخلق رموزه الخاصة. وهذا ما يجعل العمل الفني خطابًا ذاتيًا – لكنه عامّ التأثير – إذ يعبّر عن الذات دون أن يغلق دائرته على نفسه.
خامسًا: تطبيقات في التجارب التشكيلية المعاصرة :
في أعمال عدد من الفنانين المعاصرين – من أمثال جبران خليل جبران في تخطيطاته، أو سلفادور دالي في سرياليته، أو جوزيف بويس في فن الأداء – نرى الذات وقد خرجت من إطارها المحدود لتخلق لغة بصرية تتجاوز السياق الثقافي، وتنشئ “عوالم” خاصة، تعيد من خلالها مسألة الوجود، والهوية، والمعنى.
الخاتمة: نحو تشكيل الذات بواسطة الفن
الذات ليست معطى ثابتًا، بل مشروع متجدد يتبلور عبر التعبير الفني. الفن التشكيلي لا يكشف فقط ما في داخل الذات، بل يُعيد خلقها ويمنحها أفقًا معرفيًا وجماليًا أوسع. في ضوء ذلك، يمكن القول إن الفن التشكيلي، في جوهره، فعل وجودي، لا يهدف إلى المحاكاة بل إلى التحول، لا إلى التكرار بل إلى الإبداع، ولا إلى التقييد بل إلى التحرر.