من اليونسكو إلى البحر الأحمر: بحث يُجَسِّد التراث غير المادي لمدينة القصير برؤية سياحية جديدة
القصير تبرز بتراثها غير المادي

بقلم: حنان عبدالله هشي
في عرس علمي بهيج، احتضنت كلية السياحة والفنادق بجامعة الأقصر بتاريخ 21 سبتمبر 2025 مناقشة رسالة الماجستير القيمة للباحث المتميز أسامة سيد سالم، التي حملت عنوان: “التراث غير المادي لمدينة القصير: دراسة توثيقية وسياحية”. لقد جاء هذا العمل تتويجًا لجهد بحثي مضنٍ، ليقدم إضافة علمية رصينة تجمع بين التوثيق الدقيق والرؤية السياحية التنموية، ويشكل بذلك لبنة جديدة في صرح الدراسات التراثية والثقافية.
حظيت الرسالة بإشراف قمتين علميتين بارزتين: الأستاذ الدكتور أحمد يحيى راشد والأستاذة الدكتورة هبة إبراهيم مهران. كما تشرفت بلجنة مناقشة ثرية ضمت العلمين الكبيرين: الأستاذ الدكتور حجاجي إبراهيم والأستاذ الدكتور حسن رفعت. لقد أكدت أجواء المناقشة، التي كانت بحق عرسًا علميًا يليق بمدينة القصير وتراثها العريق، أن الأبحاث الجادة قادرة على إحياء الذاكرة الجمعية وربط الماضي بالحاضر، فضلًا عن فتح آفاق المستقبل أمام التنمية.
أهمية الدراسة ومنهجيتها
تمثل مدينة القصير إحدى الحواضر التاريخية المحورية على ساحل البحر الأحمر، حيث اضطلعت بدور حيوي كمنفذ تجاري وديني ومحطة رئيسية على طرق الحج والتجارة. تأتي هذه الدراسة كإسهام علمي يعالج بأسلوب منهجي شامل عنصرًا ظل مهمشًا مقارنة بالتراث المادي، وهو التراث غير المادي أو اللامادي.
تكمن أهمية الرسالة في أنها:
تعيد الاعتبار للتراث غير المادي كجزء أصيل من الهوية الثقافية لسكان القصير.
تطرح رؤية سياحية جديدة تتجاوز المواقع الأثرية والطبيعية إلى التجربة الإنسانية وما تحمله من عادات، فنون أداء، احتفالات، وأطعمة وحرف تقليدية.
تسعى إلى ربط التراث بأهداف التنمية المستدامة، عبر جعله رافدًا اقتصاديًا واجتماعيًا للمجتمع المحلي.
اعتمد الباحث في دراسته على منهج وصفي تحليلي مدعوم بعمل ميداني مكثف وغير مسبوق. شمل العمل الميداني: إجراء أكثر من خمسين مقابلة مع حاملي التراث من مختلف الأجيال، وحضور وتوثيق مناسبات شعبية كالـ”الحظ” و”الحضرة” و”المحمل”، وتوثيق الحرف التقليدية (كصناعة الشباك، النسيج اليدوي، وفنون الأصداف)، بالإضافة إلى الاستعانة بـاستمارات توثيق مستوحاة من معايير اليونسكو. هذا المزج بين النظرية والعمل الميداني عزز بشكل كبير من صدقية النتائج وقوة الاستنتاجات.
أبرز النتائج والتوصيات
أبرزت الرسالة عدة نتائج مهمة، من أهمها:
غنى التراث غير المادي لمدينة القصير بأركانه الخمسة التي حددتها اليونسكو (التراث الشفوي، فنون الأداء، الطقوس والاحتفالات، الحرف التقليدية، والممارسات المرتبطة بالطبيعة).
التنوع الثقافي الفريد لسكان المدينة، الذي أفرز موروثًا يعكس التفاعل بين المصريين والعرب والأفارقة والترك.
إمكانية تحويل هذا التراث إلى منتج سياحي جديد يضيف بعدًا ثقافيًا للسياحة في البحر الأحمر، بعيدًا عن الطابع الترفيهي البحري السائد.
أهمية طريق قفط – القصير كمسار حضاري يمكن إعادة إحيائه سياحيًا وربطه بتاريخ التجارة والحج.
قدمت الدراسة مجموعة من التوصيات العملية القابلة للتطبيق، أبرزها:
إدراج التراث غير المادي في المناهج التعليمية والمسابقات المدرسية.
تدريسه كمادة أساسية في أقسام الإرشاد السياحي بالجامعات.
دعم الحرفيين المحليين بتشريعات وتمويلات، وإلزام الفنادق بتخصيص مساحات لعرض منتجاتهم.
توظيف التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام في التسويق الفعّال للتراث القصيري.
إحياء المناسبات الشعبية وإقامة يوم سنوي للتراث غير المادي في القصير.
تقييم العمل والختام
تُحسب للدراسة جوانب قوة متعددة، لعل أهمها شموليتها النظرية والعملية مما يجعلها مرجعًا علميًا وتطبيقيًا في آن واحد، واستنادها إلى مقاربات دولية (اليونسكو) وتطويعها للواقع المحلي، وتقديمها توصيات واقعية وقابلة للتنفيذ.
ومع ذلك، يُمكن الإشارة إلى أن توسع الأبحاث اللاحقة في دراسة الأبعاد القانونية والسياسات الحكومية ذات الصلة بتسجيل وصون التراث، وإجراء مقارنة مع مدن ساحلية أخرى، قد يثري الميدان أكثر.
نُهنئ الباحث أسامة سيد سالم والسادة المشرفين الأجلاء على هذا العمل الجميل والقَيِّم. تمثل هذه الرسالة إضافة مهمة للمكتبة العربية في مجال دراسات التراث غير المادي، وتُعيد قراءة مدينة القصير باعتبارها فضاءً ثقافياً متجدداً لا يقتصر على التاريخ المادي، وتفتح الباب واسعًا أمام دراسات كيفية تحويل الموروث الشعبي إلى رافد للتنمية المستدامة والسياحة الثقافية.