
تحقيق – مرام اللبان
لم يعد الفضاء الإلكتروني مجرد وسيلة للتواصل أو الترفيه كما كان يُنظر إليه في بداياته، بل أصبح ميدانًا واسعًا تتشابك داخله المصالح والجرائم في آنٍ واحد، حيث يمكن بلمسة زر واحدة لشخص مجهول الهوية أن يسرق بياناتك ويبتزك، أو حتى ينتحل شخصيتك بالكامل، مستخدمًا تقنيات متطورة تتراوح بين التزييف العميق للصور والفيديوهات، واستنساخ الأصوات، وصولًا إلى الاحتيال المالي عبر الحسابات الوهمية وصفحات البيع غير الموثوقة.
ومع اتساع رقعة هذه الجرائم، باتت التهديدات لا تقتصر على الأفراد فحسب، بل امتدت لتطال مؤسسات مالية، شركات كبرى، وأجهزة حكومية، مما رفع من خطورتها إلى مستوى الأمن القومي، فالقضية لم تعد مجرد “قرصنة حساب” أو “ابتزاز صورة”، بل منظومة متكاملة من الجرائم العابرة للحدود، التي تستغل الفجوات التقنية والوعي المحدود لدى بعض المستخدمين.

“جرائم بلا هوية”.. كيف يواجه القانون شبح الابتزاز والنصب الإلكتروني؟
أصبح في وقتنا الحالي ضغطة زر كفيلة بتغيير حياة إنسان للأبد، إذ تتصاعد خطورة الجرائم الإلكترونية التي لم تعد تقتصر على الاحتيال المالي فحسب، بل امتدت إلى التهديد والابتزاز والتشهير، بل وحتى استغلال الذكاء الاصطناعي في تزييف الصور والأصوات.
وهذا التحقيق يفتح ملفًا شائكًا، نضع فيه القارئ أمام الصورة الكاملة: كيف تحدث هذه الجرائم؟، إلى أي مدى يحمي القانون الضحايا؟، وهل العقوبات الحالية كافية لردع المجرمين؟.
صرح الأستاذ أحمد رشدي سليم، محامي لدى جميع المحاكم الجنائية والعسكرية والمدنية، والمتخصص في الجرائم الإلكترونية، في تصريحات خاصة لجريدة “ترند 24“، إن إثبات الجرائم الإلكترونية أمام المحاكم ليس بالأمر المستحيل، لكنه يستغرق وقتًا أطول من القضايا العادية، نظرًا لطبيعة الإجراءات الفنية المعقدة، التي تتطلب جمع وتحليل الأدلة الرقمية بشكل دقيق.
وأكد “سليم” أن القانون المصري يكفل الحماية الفعلية للضحايا، موضحًا أن الخطوة الأولى عند التعرض للابتزاز أو التهديد هي التوجه فورًا إلى مباحث الإنترنت وتحرير محضر رسمي، وهو ما يفتح الباب أمام الجهات المختصة للتدخل السريع ومنع تفاقم الأضرار التي قد تلحق بالضحايا.
وأشار إلى أن العقوبات المنصوص عليها في قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية تُعد رادعة إلى حد كبير، لكنها في الوقت ذاته بحاجة إلى تغليظ أكبر لمواجهة تطور أساليب المجرمين، خاصة في الحالات التي تُرتكب من خارج البلاد، حتى إذا كان المتهم المصري يقيم بالخارج، يمكن محاكمته فور عودته إلى أرض الوطن، حيث يُنفذ الحكم عليه بمجرد وصوله عبر المطار.

ونصح “سليم” الضحايا بضرورة الاحتفاظ بكافة الأدلة قبل التوجه للشرطة، من خلال تسجيل لقطات شاشة للمحادثات أو التهديدات الإلكترونية، والاحتفاظ بروابط الحسابات أو أرقام الهواتف المستخدمة، ثم طباعتها وإرفاقها بالبلاغ، بالإضافة إلى تسليم الهاتف كدليل فني لمباحث الإنترنت.
وأوضح أن أبرز القضايا التي يتم عرضها مؤخرًا أمام المحاكم تتعلق بالتهديد والابتزاز الإلكتروني، وغالبًا ما يكون الهدف منها الحصول على مقابل مادي أو الاستيلاء على مقتنيات شخصية مثل الهواتف المحمولة.
وختم أحمد رشدي سليم تصريحاته بالتأكيد على أن الخوف من الفضيحة، أو من رد فعل الأسرة خصوصًا لدى الفتيات، يمثل السبب الأكبر وراء عزوف الكثير من الضحايا عن الإبلاغ، رغم أن القانون يقف إلى جانبهم ويوفر لهم الحماية الكاملة.
استنساخ الصوت سلاح الذكاء الاصطناعي لجرائم العصر
في دقائق قليلة يستطيع أي شخص تحويل تسجيل صوتي إلى نسخة مزيفة لا تفرقها الآذان، بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي المتاحة على الإنترنت، وهذا ما يحذر منه خبراء التكنولوجيا، إذ تحولت تقنية “استنساخ الصوت” إلى أداةٍ عملية في يد مجرمين، يستخدمونها للابتزاز والنصب، تزوير التصريحات، وحتى لخداع الأجهزة والمؤسسات والمواطنين.
حذر الدكتور محمد حجازي، خبير تكنولوجيا المعلومات، من تصاعد ظاهرة “استنساخ الصوت”، عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى أن التقنية باتت متاحة وسهلة الاستخدام لدرجة تُتيح للمهاجمين محاكاة صوت أي شخص بدقة مقلقة.

وأوضح أن العملية تبدأ بتوفير تسجيل صوتي أو مقطع فيديو للشخص المستهدف، ثم تدريب أداة ذكاء اصطناعي عليه لانتاج نسخة صوتية قابلة للتطبيق خلال دقائق، وقد تتوفر هذه الأدوات مجانًا أو عبر مصادر مفتوحة على الإنترنت.
وأشار إلى المخاطر العملية لهذه التقنية، وأن المجرمين يستغلونها لابتزاز الضحايا أو تزوير تصريحات ومقاطع تبدو حقيقية، ما يجعل التحقق أمرًا حيويًا قبل اتخاذ أي إجراء بناءً على مادة صوتية أو مرئية.
وطالب الدكتور بضرورة توعية الجمهور، بعدم نشر أو تحميل أي تسجيلات خاصة على منصات عامة دون وعي، وبتعزيز قدرات جهات إنفاذ القانون والخبراء التقنيين لمجاراة هذا التطور والوقوف مُسبقًا أمام استخدامه الإجرامي، لا أن يكون الرد دائمًا متأخرًا.
الفضاء الإلكتروني ساحة للابتزاز والخوف
لم يقتصر تناول ملف الجرائم الإلكترونية على آراء الخبراء ورجال القانون فقط، بل استطلعنا إلى الاستماع لـ آراء عدد من المواطنين، للوقوف على تجاربهم وانعكاس هذه الجرائم على حياتهم اليومية، ما بين من مرّ بتجربة شخصية صعبة، ومن يخشى الوقوع في فخ الابتزاز أو النصب الإلكتروني.
تقول منى السيد: “في الآونة الأخيرة تصلني رسائل على هاتفي باسم البنوك، تطلب مني أرقام البطاقة أو بيانات الحساب، وهذا يثير الخوف والقلق، إذ لا يمكن التمييز بين الرسائل الحقيقية ومحاولات الاحتيال، والمشكلة أن كثيرين يترددون في الإبلاغ عن هذه الرسائل، بينما لو أبلغ كل شخص فورًا عن أي محاولة نصب، لكان بالإمكان الحد من انتشار هذه الظاهرة”.

وأكدت سارة علي “طالبة جامعية”: “أصبحنا نخشى نشر صورنا، أو حتى كتابة أي شيء على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن هذه المواد قد تُستغل ضدنا في أي وقت، بجانب الخوف من الضغط على أي رابط يصلني خوفًا من اختراق هاتفي”.
فيما ترى فدوى مصطفى “موظفة”: “عمليات النصب والابتزاز الإلكتروني زادت بشكل ملحوظ، خصوصًا عبر صفحات البيع والشراء على الإنترنت، لذلك من الضروري وجود رقابة صارمة، وسرعة في التعامل مع الشكاوى”.
وأكدت نهى: “أن هذه الجرائم لا تؤثر فقط على الضحية، بل تمتد إلى أسرته بأكملها، ولهذا يخشى الكثيرون الإبلاغ حفاظًا على السمعة، خاصة في فضايا الشباب التي تقوم بتهديد الفتيات”.

بينما روت إحدى المواطنات التي رفضت الكشف عن هويتها تجربتها مع الابتزاز الإلكتروني قائلة: “تعرضت لتهديدات بنشر صور شخصية لي، وذلك مقابل دفع مبالغ مالية، عشت أيامًا سيئة مليئة بالخوف والقلق، لكنني قررت في النهاية اللجوء إلى مباحث الإنترنت، وتم التعامل مع الموقف”.
كما روت فتاة تبلغ من العمر 15 عامًا، رفضت الإفصاح عن هويتها، واقعة صادمة تعرضت لها داخل نطاق المدرسة قائلة: “فوجئت بقيام بعض زملائي بصنع ملصقات من صوري المأخوذة من مجموعة المدرسة على تطبيق “واتساب” من دون علمي، ثم جرى تداولها بطريقة مسيئة لم أكن أتصور أن يحدث وغير أن ما وقع جعلني أدرك أنه جريمة إلكترونية تمس كرامتي وخصوصيتي”
كيف تطور الأمن في ملاحقة المجرمين الإلكترونيين؟
تشير تقارير وزارة الداخلية المصرية إلى أن وحدات مكافحة الجرائم الإلكترونية، نجحت خلال الفترة الماضية في ضبط العديد من العمليات الواسعة، مما يعكس تقدمًا ملحوظًا في آليات الرصد والتتبع، سواء على مستوى تتبع الحسابات الوهمية أو كشف شبكات الابتزاز الإلكتروني، زهذه النجاحات أكدت أن المنظومة بدأت تكتسب خبرة أكبر في التعامل مع أنماط الجرائم المستحدثة.
كما أوضحت التقارير أن التعاون المستمر مع شركات الاتصالات والقطاع الخاص، لعب دورًا مهمًا في تعقب المسارات الرقمية المشبوهة والحد من انتشارها، إلى جانب تطوير أدوات تحليل البيانات الرقمية وتبادل المعلومات بشكل أسرع، وهو ما ساعد على كشف العديد من المحاولات الإجرامية وإحباطها في وقت مبكر قبل أن تتفاقم وتتحول إلى تهديد حقيقي للمواطنين.

كلمة أخيرة.. إنذار ورسالة
لم تعد الجرائم الإلكترونية قضايا فردية، بل خطرًا يهدد الأمن المجتمعي والاقتصادي على السواء، إذ يمكن لمجرم مجهول خلف شاشة صغيرة أن يُدمّر حياة إنسان، أو يُزعزع ثقة مؤسسة بأكملها، ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى رفع الوعي المجتمعي، وتطوير التشريعات، ودعم أجهزة إنفاذ القانون بالوسائل التقنية الحديثة.
وحماية الفضاء الإلكتروني مسؤولية مشتركة، تبدأ من وعي المواطن بعدم الاستسلام للابتزاز، وتمر عبر تعاون الشركات والمؤسسات، وتنتهي عند يد العدالة الرادعة، وبين كل ذلك، يبقى السؤال معلقًا: هل ننتظر وقوع المزيد من الضحايا، أم نتحرك اليوم قبل الغد لنجعل من الإنترنت مساحة آمنة لا ساحة جريمة؟