ثقافة وفن
أخر الأخبار

مذكرات الفنانة شادية ( الأخيرة) في ليلة القدر

 

كتبت//مرفت عبدالقادر احمد

 

بدأت أعطي كل حناني لخالد.. إنه التعويض الوحيد لمشاعر الأمومة المكبوتة داخلي.. هو ابنى.. أقصد مثل ابني.. وابن أخي يعتبر ابني.. وأخي طاهر له مكانة خاصة في قلبي وحياتي.. إنه بالنسبة لي مثل التوأم..

 

كان طاهر قد تزوج فتاة تركية من اسطنبول وأنجب منها خالد ولم يدم الزواج أكثر من ثلاثة أعوام قررت الزوجة أن تعود بعدها إلى بلدها اسطنبول بسبب مرض أمها..

 

وقبل عودتها إلى تركيا جاءتني وقالت لي: “سأعود إلى بلدي اسطنبول.. وسأترك لك خالد أمانة عندك وأنا أعلم أنك ستراعينه أكثر مني وأنا مطمئنة جداً عليه وهو معك أنتي بالذات”..

 

 

وكأن الله أراد أن يعوضني عن حرماني الطويل من مشاعر الأمومة ورزقني بهذا الطفل الجميل ابن أخي طاهر.. الذي وافق على أن يظل ابنه معي ومع أمي يملأ علينا حياتنا بهجة..

 

إن سعادتي ليس لها حدود عندما أسمعه وهو يناديني “ماما”.. وعوضناه كل الحنان المفقود بسبب غياب أمه.. وكبر الطفل وأصبح الآن شاباً.. إن خالد هو الحب الحقيقي في حياتي هذه الأيام.. انه البسمة المضيئة التي جاءت متأخرة لتزيل بعضاً من الأحزان الطويلة ..

 

وسط كل هذا .. سألت نفسي .. لو عاد بي الزمن إلى الوراء فهل كنت سأسير في نفس هذا الطريق.. طريق الفن ؟ لو قدر لي أن أعيش حياتي مرة أخرى .. فهل كنت سأختار التمثيل والغناء؟

 

أقولها بلا تردد.. نعم.. كنت سأسير في نفس طريق الفن رغم كل العذاب والأشواك.. وكنت سأختار التمثيل والغناء عملاً دائماً رغم أن هذا العمل منعني شعوري بالأمومة والاستقرار.. إن الفن هو قدري الذى لا أستطيع الهروب منه.. كلما حاولت الهروب منه عدت إليه مرة أخرى..

 

إن الاعتزال أصعب وأخطر قرار في حياة الفنان.. وهو لذلك يحتاج إلى شجاعة.. فالشجاع هو الذي ينسحب في الوقت المناسب.. يختفي وهو في قمة القوة والنجاح والمجد.. وقبل أن تنحسر من حوله الأضواء.. وقبل أن يبتعد عنه جمهوره وحتى لا يضطر هذا الجمهور أن يحييه ويصفق له بدافع الشفقة وليس بدافع الإعجاب..

 

ولا أستطيع أن أدعي هذه الشجاعة.. فأنا نفسي مازلت حائرة أمام ذلك السؤال الذي وجهته إلى نفسي لأول مرة .. هل حان الوقت للاعتزال؟ هل جاءت الساعة التي سأقول فيها لكل شيء وداعاً .. للشاشة والبلاتوهات والكاميرات.. وللجمهور أيضاً؟..

 

هل أختفي بإرادتي قبل أن أضطر للتواري وسط كلمات الإشفاق والعطف؟ أسئلة صعبة.. وأجوبتها أكثر صعوبة..

 

منذ عدة سنوات اكتشفت فجأة أنني بدأت أكرر نفسي.. كل حفلة جديدة هي تكرار للحفلات السابقة.. وكلمات الأغاني متشابهة..

 

وحتى الميكروفون الذي أغني أمامه لا يتغير.. ونفس الفرقة الموسيقية لا يحدث لها أي تجديد.. بل إن أعضاءها لا يغيرون حتى ترتيب جلوسهم.. وحتى نفس الديكورات التي أقف وسطها أثناء هذه الحفلات لا تتغير هي الأخرى أبداً…

 

لا جديد.. وأعصابي لم تعد تتحمل ذلك كله.. والصبر كما يقولون له حدود… ونفذت قراري الذي أتخذته.. لا عودة .. لا عودة.. فما الجديد الذي سأضيفه؟..

 

ومرت أربع سنوات من العذاب.. فابتعاد الفنان عن فنه هو أقصى عقوبة لنفسه.. إنه كمن يحكم على نفسه فجأة بالإعدام.. لكني ضعفت.. ثم ضعفت.. وعدت مرة أخرى إلى البلاتوهات والشاشة والأضواء.. وكدت أن أنسى قرار الاعتزال الذي اتخذته.. وعدت أبحث عن هذا الجديد الذي أحلم به..

 

لكن في أحد الأيام ذهبت إلى الاستديو.. جلست ساعة كاملة تحت السيشوار.. أسلمت رأسي للكوافير ساعة أخرى.. كما أسلمت وجهي ساعة ثالثة للماكيير.. وبدأت أراجع دوري الجديد.. وبعد ذلك كله أفاجأ بإلغاء التصوير.. وكدت أصرخ من شدة الغضب.. وعدت إلى بيتي وفي قلبي بركان من السخط على حال السينما هذه الأيام..

 

وبدأت أحاسب وأعاتب نفسي بشدة.. لمذا ضعفت وتراجعت عن قرار الاعتزال ؟ لماذا لا أكون شجاعة وأعلن هذا القرار.. وأتوارى بعيداً عن الأضواء.. لأمضي بقية أيام حياتي في بيتي.. يجب أن أنفذ القرار هذه المرة. يجب.. يجب.. ولابد.. ولا بد… ثم أهدأ قليلاً لأجيب بمرارة.. وماذا أعمل وحدي في البيت؟ لا زوج أحبه ويحبني.. ولا شيء سوى الصمت الثقيل والوحدة القاتلة.. والوحدة فظيعة.. والفراغ أفظع .. وشعوري بالقلق لا يزداد إلا إذا كنت بلا عمل.. إنني أحس بانقباض شديد في معظم هذه الليالي.. وفجأة أجد نفسي قد انتفضت من نومي في الثالثة أو الرابعة صباحاً.. وأسأل نفسي لماذا أنا قلقة؟ لماذا كل هذه الانقباض ؟ ..

 

الليلة ليلة القدر .. وليلة القدر ليست بالنسبة لي فقط ذكرى دينية عزيزة.. بل هي أيضاً ليلة مولدي.. في مثل هذه الليلة خرجت إلى الحياة لأبدأ هذه الرحلة الطويلة الشاقة.. لأذوق مرارة الفشل في حياتي الخاصة.. وحلاوة النجاح في عملي الفني.. رحلة الحب والعذاب.. وأيام القلق وليالي الوحدة.. والأمل الذي لا يموت أبداً.. لكني راضية عنها رغم كل شيء.. فهذه إرادة الله.. إنه يمتحن الإنسان عندما يضعه في مثل هذه المواقف..

 

الليلة ليلة القدر.. وأمي العزيزة سعيدة.. تروح وتجيء داخل الشقة بنشاط غريب على عمرها .. إنها ليلة مولدي.. وهي دائماً تنتظر هذه الليلة.. لأحتفل بمرور عام آخر من حياتي.. ولأقف مع الألوف أدعو معهم في هذه الليلة التي تستجاب فيها الدعوت..

 

يا رب.. احمني من الشعور بالوحدة.. فلا زوج.. ولا ابن.. ولا ابنة.. وهذه إرادتك ولا اعتراض لي عليها .. إن قلب الأم التي حرمت من مشاعر الأمومة هو الذي يناجيك.. وروح الزوجة التي حرمت من السعادة هي التي تبتهل إليك..

 

يا رب إني لم أحاول الإساءة لأحد.. لكنهم هم الذين أساءوا لي… يا رب ..حاولت أن أفهمهم لكنهم لم يفهموني.. يا رب.. أعطيتهم كل مشاعري المخلصة بلا حساب فلم أخذ منهم غير التجاهل والنكران.. لكني لا أحمل لهم في قلبي حقداً ولا أضمر لهم شراً…

 

يا رب.. هذه حياتي أمامك.. بكل حلوها ومرها .. فسامحني إذا كنت أخطأت.. وساعدني إذا كنت ضللت الطريق.. وحقق لي في أيامي القادمة السعادة التي عشت أبحث عنها .. يا رب.. يا رب..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى