ثقافة وفن
أخر الأخبار

ملف خاص : المولد النبوي الشريف: ذكرى تُحيي القلوب وتُجدّد السيرة

رحلة في تاريخ الاحتفال وطرائقه حول العالم

كتبت : أمنية السيد – رحمة عماد – إيمان عمارة

مقدمة

في كل عام، تتجدد في قلوب المسلمين ذكرى ميلاد النور الذي أضاء دروب البشرية، إنه المولد النبوي الشريف. مناسبة لا تقتصر على كونها احتفالًا دينيًا، بل هي رحلة روحانية واجتماعية فريدة، تنسج خيوطًا من المحبة والوفاء للنبي محمد ﷺ. من شوارع القاهرة التي تفوح منها رائحة حلوى المولد، إلى مواكب الأعلام في السودان، مرورًا بالمدائح النبوية في المغرب وتونس، تتعدد مظاهر الاحتفاء، لكنها جميعًا تصب في نهر واحد من العشق لسيد الخلق. هذا الملف الصحفي يأخذكم في جولة معمقة لاستكشاف الأبعاد التاريخية، والثقافية، والاجتماعية لهذه المناسبة العظيمة، مستعرضًا تنوع طقوسها ووحدة رسالتها، ومناقشًا الآراء المختلفة حولها، ليظل المولد النبوي أيقونة تجمع المسلمين على قلب رجل واحد، رغم اختلاف الأوطان والعادات.

طقوس وتراث يوحد قلوب المسلمين

تقرير : أمنية السيد

يُوافق يوم 12 ربيع الأول من كل عام ذكرى المولد النبوي الشريف، حيث يحتفل المسلمون في مختلف أنحاء العالم بذكرى ميلاد النبي محمد ﷺ، باعتباره يومًا يحمل أجواء روحانية واجتماعية خاصة، تتنوع فيه الطقوس والعادات بين الدول، لكن يجمعها رابط المحبة والاعتزاز بالرسول الكريم.

بدايات الاحتفال بالمولد النبوي

تعود جذور الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى العصر الفاطمي في مصر، حيث شهدت القاهرة مواكب احتفالية وزينة في الشوارع، إلى جانب توزيع الحلوى والأطعمة على الناس، لتصبح هذه الطقوس عادة سنوية. ومع مرور الوقت، انتقلت الفكرة إلى العديد من الدول الإسلامية، حتى غدت المناسبة جزءًا أصيلًا من الوعي الجمعي للمسلمين في مختلف بقاع العالم.

طقوس الاحتفال في العالم الإسلامي

  • روحانية وبهجة في شوارع مصر: في مصر، يُعد المولد النبوي الشريف من أبرز المناسبات الدينية والاجتماعية التي تحمل طابعًا خاصًا. تكتظ الأسواق بحلوى المولد الشهيرة وعلى رأسها “العروسة” و”الحصان”، بينما تعلو أصوات الابتهالات ومجالس الذكر التي تضفي أجواءً روحانية مميزة على الشوارع والميادين.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في مصر
  • السودان.. مواكب الأعلام والمدائح: يتجسد الاحتفال بالمولد النبوي في السودان في مسيرات شعبية تنطلق من القرى والمدن، حيث يرتدي الأهالي ملابس بيضاء ويحمل بعضهم أعلامًا أو سعف النخيل، مرددين عبارة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”. وتُقام في الساحات سرادقات للاحتفال، تُقدم فيها القصائد والمدائح النبوية التي تعبر عن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وتستحضر صفاته من رحمة وشجاعة وحكمة.
لاحتفال بالمولد النبوي الشريف في السودان
  • باكستان.. مواكب ضخمة وخطب عامة: تتميز باكستان بمواكب هائلة خلال المولد النبوي، تُزين بالعربات واللافتات وترافقها موسيقى دينية، إلى جانب خطب عامة وتلاوة أحاديث نبوية تحث على التمسك بتعاليم الرسول الكريم.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في باكستان
  • الهند.. الزينة والمواكب وحملات الخير: في الهند، تتزين الشوارع والمنازل احتفاءً بالمولد، وتشهد المدن الكبرى مثل حيدر آباد ولوكناو مواكب شعبية ضخمة مصحوبة بالأناشيد والعروض الدينية. كما يحرص الأهالي على توزيع الطعام والتبرعات للفقراء، في مشهد يعكس البعد الاجتماعي لهذه المناسبة.
الاحتفال في المولد النبوي الشريف في الهند
  • تونس.. جامع القيروان و”المقروض”: تُحيي تونس المناسبة بصلوات وخطب خاصة في الجامع الأعظم بمدينة القيروان، بينما تتزين الشوارع بالمواكب التقليدية والفوانيس. وتُشارك العائلات بوجبات احتفالية أبرزها “المقروض” التونسي، كما تُقام فعاليات ثقافية وفنية تشمل الشعر والموسيقى والأعمال الخيرية.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في تونس
  • إندونيسيا.. أعمال خيرية ومجتمعية: في إندونيسيا، يتركز الاحتفال على الأعمال الخيرية وخدمة المجتمع، حيث يتبرع الأهالي للفقراء والجمعيات الخيرية، إلى جانب تنظيم ولائم تُوزع فيها الأطعمة على المحتاجين.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في اندونسيا
  • الخليج العربي.. خطب وتلاوات قرآنية: تُركز دول الخليج على الجانب الروحي من خلال خطب في المساجد وتلاوات قرآنية خاصة، مع التركيز على الآيات التي تمدح النبي صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الالتزام بسنته وقيمه في الحياة اليومية.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في الخليج العربي
  • المغرب.. “الميلودية” وأجواء مميزة: يُطلق المغاربة على المناسبة اسم “الميلودية”، وتبدأ الاحتفالات منذ حلول شهر ربيع الأول، حيث تُلقى القصائد الدينية وتُقام التجمعات الشعبية. كما يحرص الأهالي على شراء ملابس جديدة للأطفال وإعداد الحلويات الخاصة بالمناسبة.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب
  • العراق.. الأعظمية والروح الصوفية: في العراق، يشهد جامع أبي حنيفة النعمان في الأعظمية ببغداد احتفالات كبرى تبدأ ليلة 11 ربيع الأول، حيث يتوافد الآلاف من مختلف المذاهب لتلاوة القرآن والإنشاد الديني، ويستمر الاحتفال لأسبوع كامل. بينما يتميز الأكراد في السليمانية بطقوس صوفية خاصة تُعرف بالكسنزانية، كما يحتفل الشيعة يوم 17 ربيع الأول بزيارة مراقد الأئمة في النجف وكربلاء.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في العراق

أبعاد الاحتفال: دينية وثقافية واقتصادية

لا يقتصر المولد النبوي على كونه مناسبة دينية فحسب، بل يمتد أثره إلى جوانب ثقافية واجتماعية واقتصادية متعددة. على الصعيد الثقافي، يُرسّخ الاحتفال الهوية الإسلامية المشتركة، ويُعيد إحياء التراث عبر المدائح النبوية والقصائد والاحتفالات الشعبية. أما على الصعيد الاجتماعي، فهو يجمع الناس في أجواء روحانية أسرية ومجتمعية، تُعزز قيم التضامن والتكافل. في الجانب الاقتصادي، يمثل المولد فرصة لتنشيط الأسواق بفضل رواج حلوى المولد والمنتجات التراثية، إضافة إلى دوره في تنشيط السياحة الدينية ببعض المدن التي تشهد احتفالات كبرى مثل القيروان والأعظمية.

رغم اختلاف طرق وأساليب الاحتفال بالمولد النبوي من بلد لآخر، تبقى المناسبة رمزًا لوحدة المسلمين حول العالم، يجتمعون خلالها على حب النبي صلى الله عليه وسلم، واستحضار سيرته العطرة، وتجديد العهد على التمسك بتعاليمه السمحة التي تدعو إلى الرحمة، والمحبة، والتكافل بين البشر.

بين مؤيد ومعارض.. المصريون يختلفون حول الاحتفال بالمولد

تحقيق : رحمة عماد

تتنوع مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي، من مكان لآخر، وأحيانًا من بيت لبيت آخر داخل الحي الواحد، فلكل أسرة طريقتها الخاصة التي تميزها عن غيرها لإحياء المناسبة. وبينما يرى الكثيرون أن هذه الطقوس تعبير صادق عن المحبة والفرح بذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، يجد آخرون أنها مجرد بدعة ويمتنعون عن إبداء أي مظهر من مظاهر الاحتفال. ومن هذا المنطلق حاولنا جمع الآراء المتباينة، للوصول إلى رؤية أوضح حول حقيقة الأمر.

بين العادة والعبادة.. آراء المصريين في الاحتفال

قالت السيدة “أم كريم”، ربة منزل: “منذ طفولتي اعتدت شراء عروسة المولد، واليوم أواصل هذه العادة مع ابنتي، فحتى مع ارتفاع الأسعار، يبقى الأهم إسعادهم، فهذه عادة توارثناها جيلًا بعد جيل.”

بينما أضافت الطالبة بسملة الجمل أن: “أكثر ما يميز المولد بالنسبة لي هو التجمع العائلي، حيث نجلس جميعًا ونأكل الحلوى ونسمع مدائح نبوية، فتُضيف روحًا مميزة، تختلف عن باقي الأيام.”

وقالت سوزان الجمال رافضة الاحتفال: “أصبح الاحتفال بذكرى مولد النبي مجرد ظاهرة مبنية على بعض المظاهر فقط، من شراء الحلاوة والعرائس، وبعض الزينة المعلقة، ولم نعد نهتم بجوهر المناسبة، بينما الاحتفال الحقيقي يجب أن يكون بقراءة السيرة النبوية، والاقتداء بأخلاق الرسول.”

كما أوضح الحاج محمد عبد التواب، صاحب محل حلوى: “المولد بالنسبة لنا موسم رزق، صحيح الأسعار ارتفعت بسبب غلاء السكر والمكسرات، لكن الناس لا يمكن أن تستغني عن شراء الحلوى ولو بكمية قليلة،” مضيفًا أن “العروسة والحصان مازالا رمز الفرحة عند الأطفال.”

وأشار يوسف علاء، صاحب محل حلوى: إلى أنه رغم ارتفاع الأسعار مازال الإقبال قائمًا، قائلًا: “الناس اعتادت على شراء الحلوى في المولد، حتى لو بكميات أقل من قبل، لأن المناسبة مرتبطة بالفرحة واللمة، والأطفال ينتظرون عروسة أو حصان المولد النبوي من السنة للسنة.”

كما أضافت منى علي، طالبة جامعية: أن أكثر شيء تنتظره في المولد النبوي، هو أجواء الشوارع، الزينة والألوان والحلوى المعروضة في المحلات، فتُعطي شعورًا مختلفًا، حتى لو اشتريت كمية قليلة.

كلمة الفصل لدار الإفتاء

أوضحت دار الإفتاء المصرية أن الاحتفال بالمولد النبوي يُعد مظهرًا من مظاهر المحبة والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو عمل مشروع ومستحب، بل من أفضل القربات وأعظمها أجرًا. واستشهدت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكم حتى أَكُونَ أَحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أَجمَعِينَ». كما استدلت بقول الله تعالى: «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ»، مؤكدة أن في ذلك دلالة واضحة على استحباب إحياء الأيام العظيمة في تاريخ المسلمين وتذكير الناس بفضلها ومكانتها.

وهكذا يبقى المولد النبوي حدثًا يحمل أكثر من معنى داخل المجتمع المصري والإسلامي، فهناك من يراه عادة موروثة تعكس البهجة وتجمع العائلة، وغيرهم يعتبرونه بدعة خرجت عن جوهر الدين. وتظل الحقيقة أن هذه المناسبة قادرة على أن تصنع أجواء مميزة في البيوت والشوارع والأسواق، ورغم الاختلاف وتعدد الآراء بين مؤيد ومعارض، فإن دار الإفتاء حسمت الجدل، وأكدت مشروعية الاحتفال، حيث يُعد رمزًا وطريقة للتعبير عن المحبة والتعظيم لخير خلق الله، وتبقى لكل أسرة طريقتها الخاصة في إحياء هذه الذكرى، التي تظل محفورة في وجدان المصريين جيلًا بعد جيل.

من إربل إلى العالم الإسلامي.. رحلة تاريخية للاحتفال بالمولد النبوي

حوار : ايمان عمارة

يُعتبر المولد النبوي الشريف مناسبة عظيمة يستحضر فيها المسلمون سيرة خير الخلق صلى الله عليه وسلم، ويجددون محبتهم له واعتزازهم برسالته. ورغم ما يثار حول الاحتفال بهذه الذكرى من جدل بين مؤيد ومعارض، يبقى السؤال الأهم: كيف نجعل من المولد فرصة لترسيخ القيم النبوية في واقعنا؟ حول هذه القضية كان لنا هذا الحوار مع فضيلة الشيخ محمد شحاتة المهدي.

الشيخ / محمد شحاته المهدي

بداية الاحتفال بالمولد النبوي

متى بدأ المسلمون الاحتفال بالمولد النبوي لأول مرة؟ لم يكن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف موجودًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في القرون الثلاثة الأولى، وإنما بدأ ظهوره بشكل منظم في القرن السادس الهجري على يد الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري حاكم إربل في العراق. كان يُقيم احتفالات كبيرة يشارك فيها العلماء والفقهاء والناس، وتتخللها تلاوة القرآن وذكر السيرة النبوية وتوزيع الطعام. ومنذ ذلك الحين انتشرت عادة الاحتفال بالمولد في كثير من بلدان العالم الإسلامي، كلٌ بحسب تقاليده وعاداته.

حكم الاحتفال بالمولد النبوي في الإسلام

ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي في الإسلام؟ علّق الشيخ محمد شحاتة المهدي قائلًا: “إن الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل الأعمال وأعظم القربات وأجلِّ الطاعات؛ لما فيه من التعبير عن الحب والفرح بمولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أصلٌ من أصول الإيمان؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» أخرجه الشيخان.

كما قال الحافظ ابن رجب في “فتح الباري” (1/ 48، ط. مكتبة الغرباء الأثرية): [محبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أصول الإيمان، وهي مقارِنة لمحبة الله عز وجل، وقد قرنها اللهُ بها، وتَوَّعَدَ مَن قدَّم عليهما محبَّة شيء مِن الأمور المحبَّبة طبعًا مِن الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك].

تباين الآراء حول حكم الاحتفال

هل هناك خلاف بين العلماء في هذه المسألة؟ وكيف نفرّق بين البدعة الحسنة والسيئة؟ أجاب الشيخ قائلًا: “نعم، يوجد خلاف بين العلماء حول الاحتفال بالمولد النبوي، فالجمهور يرى أن الاحتفال جائز وبدعة حسنة، بينما ترى جماعة من العلماء، خاصة من المنهج السلفي، أنه بدعة محرمة لعدم وروده في السنة.”

  • الاحتفال بدعة حسنة: يرى أصحاب هذا الرأي أن الاحتفال بالمولد النبوي هو بدعة حسنة، وأن حب النبي ﷺ والاحتفاء بذكره هو تعبير عن الارتباط به واتباع سنته. ويكون ذلك من خلال تلاوة القرآن، والصدقات، وإطعام الطعام، وإظهار الفرح والمحبة. ويعتمد هذا الرأي على أن “الأعمال بالنيات”، وأن نية شكر الله على ميلاد نبيه مستحسنة.
  • الاحتفال بدعة ضلالة: يرى آخرون أن الاحتفال بالمولد بدعة ضلالة لأنه لم يُفعل في عهد النبي ﷺ ولا خلفائه ولا الصحابة، وأن “كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”، ويرون أنه تقليد لغير المسلمين، ويؤدي إلى التبذير والتفاخر، وليس من السيرة النبوية أو عبادة مشروعة.

تطور أشكال الاحتفالات عبر العصور

كيف تطور شكل الاحتفالات بالمولد النبوي عبر العصور؟ بدأت الاحتفالات بالمولد النبوي في القرن الثالث الهجري، وأخذت أشكالًا مختلفة تتراوح بين المظاهر الرسمية والشعبية، كإقامة موائد الطعام، والاحتفالات الصوفية، وصولًا إلى إقامة فعاليات ثقافية وفنية، وأعمال خيرية، وعروض لآثار في مختلف الدول الإسلامية، خاصة في مصر والمغرب.

ظهرت الاحتفالات الأولى في مصر خلال القرن الثالث الهجري وما بعده، وتميزت بإقامة موائد الطعام، وإنشاد الأشعار، وإلقاء الخطب، وتُعتبر هذه بداية تقليد الاحتفالات بالمولد النبوي. وفي عصور لاحقة مثل عصر المماليك، أصبحت الاحتفالات تشمل “الليلة الكبيرة” وهي ذروة الاحتفالات بالمولد، والتي يتم فيها الذكر والمديح وإطعام الفقراء.

وفي المغرب، كان سلاطين المغرب يهتمون بتنظيم الاحتفالات، مثل السلطان أحمد المنصور الذي أمر بتطريز المطرّزات الفاخرة وتوزيعها، ثم يقرأ الواعظ فضائل النبي، ويليه المنشدون، ليُختتم المولد بإطعام الطعام. ومن مظاهر الصوفية، إحياء ذكرى المولد النبوي في أماكن مختلفة حول العالم بطرق تتشابه في جوهرها، لكنها تختلف في التفاصيل، مثل إقامة مهرجانات كبيرة في المظاهر الصوفية، وإنشاد الأشعار والمدائح، والتبرع بالأعمال الخيرية، ورواية القصص.

ومن المظاهر الشعبية والثقافية في مصر، تحتفل الدولة عبر المؤسسات الدينية والثقافية، بإقامة الندوات والدروس والخطب وورش عمل عن صناعة الحلوى التاريخية، كما تُقام فعاليات فنية وثقافية. وفي الهند ودول أخرى ذات أغلبية مسلمة، تُعرض آثار متعلقة بالنبي محمد في الاحتفالات.

معنى الاحتفال بالمولد النبوي

ما معنى الاحتفال بالمولد النبوي وما الحكمة من إحيائه؟ ذكر الشيخ محمد أن الاحتفال بالمولد النبوي هو مناسبة سنوية لإحياء ذكرى ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويُعبر عن حب المسلمين وتعظيمهم له، ويتضمن إقامة مجالس تُروى فيها سيرته وقصائد مدحه، وتُقدم فيها الطعام والحلويات. بالرغم أن الاحتفال بالمولد يُعد بدعة من قبل بعض الفقهاء، إلا أن آخرين يرون فيه مشروعية كفرحة بولادته وتقرب إلى الله.

يكمن جوهر إحياء المولد النبوي في الاقتداء بسيرة النبي وتعاليمه، وهو ما يؤكده الفقهاء الذين يرون أن محبة النبي تظهر في اتباع سنته وليس في إحياء ذكرى ميلاده.

وتابع: “معنى الاحتفال بالمولد النبوي هو فرحة بولادة النبي: يرى البعض أن الاحتفال بالمولد هو تعبير عن الفرحة بمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإظهار للمحبة له. يشمل الاحتفال إقامة مجالس تلاوة القرآن ومدح النبي، وذكر شمائله، وتدريس سنته لتعليم الناس دينه ومنهجه. تشمل إقامة مجالس الذكر والإنشاد والدعاء، وإعداد الطعام والحلويات مثل حلاوة المولد، وذلك في بعض الدول الإسلامية.”

أسباب تباين الآراء

ما أسباب تباين الآراء حول حكم الاحتفال بالمولد النبوي؟ أكد الشيخ معلقًا: “تتفق الآراء على أن الاختلاف في حكم الاحتفال بالمولد النبوي يرجع إلى تفسير الأدلة الشرعية المتعلقة بالبدعة والاحتفالات الدينية، وانقسام العلماء حول ما إذا كان الاحتفال بدعة حسنة أو بدعة محدثة منهي عنها، بناءً على ما إذا كان يندرج تحت باب التعظيم والعبادة المشروعة أو يتضمن ابتداعًا في الدين لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته.

ومن أهم الآراء:

  • الاحتفال بدعة حسنة جائز: يرى أصحاب هذا الرأي أن الاحتفال جائز، لأنهم يعتبرونه شكلًا من أشكال تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار المحبة له. يشتمل الاحتفال على طاعات متنوعة كقراءة القرآن والذكر والمدح وذكر شمائل النبي وسيرته. يرون أن أصل الاحتفال مشروع أو مستحب، وأن الهيئات والتقاليد المرتبطة به جائزة ما دامت من جنس المباح ولا تتضمن محظورات شرعية. استند هذا الرأي إلى آراء علماء مثل الحافظ ابن دحية، والحافظ السيوطي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والفقيه ابن حجر الهيتمي.
  • الاحتفال بدعة محدثة غير جائز: يرى أصحاب هذا الرأي أنه غير جائز لعدم فعله في الصدر الأول، حيث لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا التابعون ولا في القرون المفضلة. كما يرون أن الله عوض المسلمين بعيدين هما الفطر والأضحى، وما فيهما من فرح واحتفال يكفي، ويشددون على أن الحجة الشرعية في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وأن ما أُحدث من المواسم فهو منكر. ويرون أن كمال محبة النبي وتعظيمه يكون في متابعته وإحياء سنته، لا بإحداث ما لم يفعله.

وفي النهاية، يبقى المولد النبوي الشريف مناسبة متجددة لاستحضار القيم التي جاء بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، قيم الرحمة والعدل والتسامح، وليس المقصود بالاحتفال مجرد مظاهر شكلية، بل هو دعوة للعودة إلى سيرته العطرة، والاقتداء بسنته في حياتنا اليومية، فحب النبي ﷺ لا يكتمل إلا بالاتباع، وجعل مولده منطلقًا لتجديد الإيمان وتربية الأجيال على نور الهدي المحمدي.

خاتمة

وبعد هذه الجولة في عوالم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، تتضح حقيقة واحدة لا تقبل الجدل: أن هذه المناسبة أعمق من مجرد طقوس موسمية. إنها فرصة متجددة للتواصل مع سيرة النبي الكريم ﷺ، واستلهام قيمه التي قامت عليها حضارة كاملة. ورغم تباين الآراء بين مؤيد ومعارض، يظل الهدف الأسمى هو تجديد العهد على اتباعه، والاقتداء بأخلاقه التي كانت قرآنًا يمشي على الأرض. فحب النبي ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو منهج حياة، ورحمة، وعدل، وتسامح. فالمولد النبوي ليس نهاية المطاف، بل هو بداية جديدة لنُحيي في قلوبنا وعقولنا نور سيرته العطرة، ونجعل من كل يوم مولدًا جديدًا لاتباع هَدْيِه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى